سورة سبأ - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


هذه الجولة تتناول موقف الذين كفروا مما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف المترفين من كل رسالة، وهم الذين تغرهم أموالهم وأولادهم، وما يجدون من أعراض هذه الدنيا في أيديهم، فيحسبونها دليلاً على اختيارهم وتفضيلهم؛ ويحسبون أنها مانعتهم من العذاب في الدنيا والآخرة. ومن ثم يعرض عليهم مشاهدهم في الآخرة، كأنها واقعة، ليروا إن كان شيء من ذلك نافعاً لهم أو واقياً. وفي هذه المشاهد يتضح كذلك أنه لا الملائكة ولا الجن الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويستعينونهم يملكون لهم في الآخرة شيئاً.. وفي خلال الجدل يوضح القرآن حقيقة القيم التي لها ثقل في ميزان الله؛ فتنكشف القيم الزائفة التي يعتزون بها في الحياة؛ ويتقرر أن بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله، وليسا دليلاً على رضى أو غضب ولا على قربى أو بعد. إنما ذلك ابتلاء..
{وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل: لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون}..
يجيء هذا البيان بعد الجولة الماضية، وما فيها من تقرير فردية التبعة؛ وأنه ليس بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل إلا الدعوة والبيان، وأمرهم بعد ذلك إلى الله.
ويتبعه هنا بيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم وجهلهم بحقيقتها؛ واستعجالهم له بما يعدهم ويوعدهم من الجزاء؛ وتقرير أن ذلك موكول إلى موعده المقدور له في غيب الله:
{وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}..
هذه هي حدود الرسالة العامة للناس جميعاً.. التبشير والإنذار. وعند هذا الحد تنتهي؛ أما تحقيق هذا التبشير وهذا الإنذار فهو من أمر الله:
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟}..
وهذا السؤال يوحي بجهلهم لوظيفة الرسول؛ وعدم إدراكهم لحدود الرسالة. والقرآن حريص على تجريد عقيدة التوحيد. فما محمد إلا رسول محدد الوظيفة. وهو قائم في حدود وظيفته لا يتخطاها. والله هو صاحب الأمر. هو الذي أرسله، وهو الذي حدد له عمله؛ وليس من عمله أن يتولى ولا حتى أن يعلم تحقيق الوعد والوعيد.. ذلك موكول إلى ربه، وهو يعرف حدوده. فلا يسأل مجرد سؤال عن شيء لم يطلعه عليه ربه، ولم يكل إليه أمره. وربه يكلفه أن يرد عليهم رداً معيناً فيقوم به:
{قل: لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون}..
وكل ميعاد يجيء في أجله الذي قدره الله له. لا يستأخر لرغبة أحد، ولا يستقدم لرجاء أحد. وليس شيء من هذا عبثاً ولا مصادفة. فكل شيء مخلوق بقدر.
وكل أمر متصل بالآخر. وقدر الله يرتب الأحداث والمواعيد والآجال وفق حكمته المستورة التي لا يدركها أحد من عباده إلا بقدر ما يكشف الله له.
والاستعجال بالوعد والوعيد دليل على عدم إدراك هذه الحقيقة الكلية. ومن ثم فإن أكثر الناس لا يعلمون. وعدم العلم يقودهم إلى السؤال والاستعجال.
{وقال الذين كفروا: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}..
فهو العناد والإصرار ابتداء على رفض الهدى في كل مصادره. لا القرآن، ولا الكتب التي سبقته، والتي تدل على صدقه. فلا هذا ولا ذاك هم مستعدون للإيمان به لا اليوم ولا الغد. ومعنى هذا أنهم يصرون على الكفر، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في دلائل الهدى كائنة ما كانت. فهو العمد إذن وسبق الإصرار!
عندئذ يجبههم بمشهدهم يوم القيامة، وفيه جزاء هذا الإصرار:
{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم، يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين! قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى، بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين! وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن تكفر بالله ونجعل له أنداداً.. وأسروا الندامة لما رأوا العذاب؛ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا. هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟}..
ذلك كان قولهم في الدنيا: {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}.. فلو ترى قولهم في موقف آخر. لو ترى هؤلاء الظالمين وهم {موقوفون} على غير إرادة منهم ولا اختيار؛ إنما هم مذنبون بالوقوف في انتظار الجزاء {عند ربهم}.. ربهم الذي يجزمون بأنهم لن يؤمنوا بقوله وكتبه. ثم هاهم أولاء موقوفون عنده! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنب بعضهم بعضاً، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض: {يرجع بعضهم إلى بعض القول}.. فماذا يرجعون من القول؟
{يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين}..
فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة، وما يتوقعون بعدها من البلاء! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم؛ ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة. كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحها إياهم، والإدراك الذي أنعم به عليهم. أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب الأليم، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين! {لولا أنتم لكنا مؤمنين}!
ويضيق الذين استكبروا بالذين استضعفوا. فهم في البلاء سواء. وهؤلاء الضعفاء يريدون أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء! وعندئذ يردون عليهم باستنكار، ويجبهونهم بالسب الغليظ:
{قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين}!
فهو التخلي عن التبعة، والإقرار بالهدى، وقد كانوا في الدنيا لا يقيمون وزناً للمستضعفين ولا يأخذون منهم رأياً، ولا يعتبرون لهم وجوداً، ولا يقبلون منهم مخالفة ولا مناقشة! أما اليوم وأمام العذاب فهم يسألونهم في إنكار: {أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟}.
{بل كنتم مجرمين}.. من ذات أنفسكم، لا تهتدون، لأنكم مجرمون!
ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة. ولكنهم في الآخرة حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة؛ وتتفتح العيون المغلقة وتظهر الحقائق المستورة. ومن ثم لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهاراً ولا ليلاً للصد عن الهدى؛ وللتمكين للباطل، ولتلبيس الحق، وللأمر بالمنكر، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء:
{وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً}..
ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء، ولا ينجي المستكبرين ولا المستضعفين. فلكل جريمته وإثمه. المستكبرون عليهم وزرهم، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم. والمستضعفون عليهم وزرهم، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين. لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية؛ ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولاً؛ وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين. فاستحقوا العذاب جميعاً؛ وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضراً لهم مهيأ:
{وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}..
وهي حالة الكمد الذي يدفن الكلمات في الصدور، فلا تفوه بها الألسنة، ولا تتحرك بها الشفاه.
ثم أخذهم العذاب المهين الغليظ الشديد:
{وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا}..
ثم يلتفت السياق يحدث عنهم وهم مسحوبون في الأغلال، مهملاً خطابهم إلى خطاب المتفرجين!
{هل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟}.
ويسدل الستار على المستكبرين والمستضعفين من الظالمين. وكلاهما ظالم. هذا ظالم بتجبره وطغيانه وبغيه وتضليله. وهذا ظالم بتنازله عن كرامة الإنسان؛ وإدراك الإنسان، وحرية الإنسان، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان.. وكلهم في العذاب سواء. لا يجزون إلا ما كانوا يعملون..
يسدل الستار وقد شهد الظالمون أنفسهم في ذلك المشهد الحي الشاخص. شهدوا أنفسهم هناك وهم بعد أحياء في الأرض. وشهدهم غيرهم كأنما يرونهم. وفي الوقت متسع لتلافي ذلك الموقف لمن يشاء!
ذلك الذي قاله المترفون من كبراء قريش قاله قبلهم كل مترف أمام كل رسالة:
{وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا بما أرسلتم به كافرون}..
فهي قصة معادة، وموقف مكرور، على مدار الدهور. وهو الترف يغلظ القلوب، ويفقدها الحساسية؛ ويفسد الفطرة ويغشيها فلا ترى دلائل الهداية؛ فتستكبر على الهدى وتصر على الباطل، ولا تتفتح للنور.
والمترفون تخدعهم القيم الزائفة والنعيم الزائل، ويغرهم ما هم فيه من ثراء وقوة، فيحسبونه مانعهم من عذاب الله؛ ويخالون أنه آية الرضى عنهم، أو أنهم في مكان أعلى من الحساب والجزاء:
{وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً، وما نحن بمعذبين}.
والقرآن يضع لهم ميزان القيم كما هي عند الله؛ ويبين لهم أن بسط الرزق وقبضه، ليست له علاقة بالقيم الثابتة الأصيلة؛ ولا يدل على رضى ولا غضب من الله؛ ولا يمنع بذاته عذاباً ولا يدفع إلى عذاب. إنما هو أمر منفصل عن الحساب والجزاء، وعن الرضى والغضب، يتبع قانوناً آخر من سنن الله:
{قل: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
وهذه المسألة. مسألة بسط الرزق وقبضه؛ وتملك وسائل المتاع والزينة أو الحرمان منها، مسألة يحيك منها شيء في صدور كثيرة. ذلك حين تتفتح الدنيا أحياناً على أهل الشر والباطل والفساد، ويحرم من أعراضها أحياناً أهل الخير والحق والصلاح؛ فيحسب بعض الناس أن الله ما كان ليغدق على أحد إلا وهو عنده ذو مقام. أو يشك بعض الناس في قيمة الخير والحق والصلاح، وهم يرونها محوطة بالحرمان!
ويفصل القرآن هنا بين أعراض الحياة الدنيا والقيم التي ينظر الله إليها. ويقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وأن هذه مسألة ورضاه وغضبه مسألة أخرى ولا علاقة بينهما. وقد يغدق الله الرزق على من هو عليه غاضب كما يغدقه على من هو عليه راض. وقد يضيق الله على أهل الشر كما يضيق على أهل الخير. ولكن العلل والغايات لا تكون واحدة في جميع هذه الحالات.
لقد يغدق الله على أهل الشر استدراجاً لهم ليزدادوا سوءاً وبطراً وإفساداً، ويتضاعف رصيدهم من الإثم والجريمة، ثم يأخذهم في الدنيا أو في الآخرة وفق حكمته وتقديره بهذا الرصيد الأثيم! وقد يحرمهم فيزدادوا شراً وفسوقاً وجريمة، وجزعاً وضيقاً ويأساً من رحمة الله، وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الشر والضلال.
ولقد يغدق الله على أهل الخير، ليمكنهم من أعمال صالحة كثيرة ما كانوا بالغيها لو لم يبسط لهم في الرزق، وليشكروا نعمة الله عليهم بالقلب واللسان والفعل الجميل؛ ويذخروا بهذا كله رصيداً من الحسنات يستحقونه عند الله بصلاحهم وبما يعلمه من الخير في قلوبهم. وقد يحرمهم فيبلو صبرهم على الحرمان، وثقتهم بربهم، ورجاءهم فيه، واطمئنانهم إلى قدره، ورضاهم بربهم وحده، وهو خير وأبقى؛ وينتهوا بهذا إلى مضاعفة رصيدهم من الخير والرضوان.
وأياً ما كانت أسباب بسط الرزق وقبضه من عمل الناس، ومن حكمة الله، فهي مسألة منفصلة عن أن تكون دليلاً بذاتها على أن المال والرزق والأبناء والمتاع قيم تقدم أو تؤخر عند الله. ولكنها تتوقف على تصرف المبسوط لهم في الرزق أو المضيق عليهم فيه. فمن وهبه الله مالاً وولداً فأحسن فيهما التصرف فقد يضاعف له الله في الثواب جزاء ما أحسن في نعمة الله.


هذا الشوط الأخير في السورة يبدأ بالحديث عن المشركين، ومقولاتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن الذي جاء به؛ ويذكرهم بما وقع لأمثالهم، ويريهم مصرع الغابرين الذين أخذهم النكير في الدنيا، وهم كانوا أقوى منهم وأعلم وأغنى..
ويعقب هذا عدة إيقاعات عنيفة كأنما هي مطارق متوالية. يدعوهم في أول إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجردين ثم يتفكروا غير متأثرين بالحواجز التي تمنعهم من الهدى ومن النظر الصحيح. وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث التي تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يلاحقهم بالدعوة، وليس له من وراء ذلك نفع، ولا هو يطلب على ذلك أجراً، فما لهم يتشككون في دعوته ويعرضون؟ ثم تتوالى الإيقاعات: قل. قل. قل. وكل منها يهز القلب هزاً ولا يتماسك له قلب به بقية من حياة وشعور!
ويختم الشوط وتختم معه السورة بمشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة، يناسب إيقاعه تلك الإيقاعات السريعة العنيفة.
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى. وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين. وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير. وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي، فكيف كان نكير؟}..
لقد قابلوا الحق الواضح البين الذي يتلوه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برواسب غامضة من آثار الماضي، وتقاليد لا تقوم على أساس واضح، وليس لها قوام متماسك. ولقد أحسوا خطورة ما يواجههم به القرآن الكريم من الحق البسيط المستقيم المتماسك. أحسوا خطورته على ذلك الخليط المشوش من العقائد والعادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم فقالوا قولتهم تلك:
{ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم}..
ولكن هذا وحده لا يكفي. فإن مجرد أنه يخالف ما كان عليه الآباء ليس مطعناً مقنعاً لجميع العقول والنفوس. ومن ثم اتبعوا الادعاء الأول بادعاء آخر يمس أمانة المبلغ، ويرد قوله أنه جاء بما جاء به من عند الله:
{وقالوا: ما هذا إلا إفك مفترى}..
والإفك هو الكذب والافتراء؛ ولكنهم يزيدونه توكيداً: {ما هذا إلا إفك مفترى}..
ذلك ليشككوا في قيمته ابتداء، متى أوقعوا الشك في مصدره الإلهي.
ثم مضوا يصفون القرآن ذاته:
{وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين}..
فهو كلام مؤثر يزلزل القلوب، فلا يكفي أن يقولوا: إنه مفترى. فحاولوا إذن أن يعللوا وقعه القاهر في القلوب.
فقالوا: إنه سحر مبين!
فهي سلسلة من الاتهامات، حلقة بعد حلقة، يواجهون بها الآيات البينات كي يحولوا بينها وبين القلوب. ولا دليل لهم على دعواهم. ولكنها جملة من الأكاذيب لتضليل العامة والجماهير. أما الذين كانوا يقولون هذا القول وهم الكبراء والسادة فقد كانوا على يقين أنه قرآن كريم، فوق مقدور البشر، وفوق طاقة المتكلمين! وقد سبق في الظلال ما حدث به بعض هؤلاء الكبراء بعضاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر القرآن؛ وما دبروا بينهم من كيد ليصدوا به الجماهير عن هذا القرآن الذي يغلب القلوب ويأسر النفوس!
وقد كشف القرآن أمرهم، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتاباً يقيسون به الكتب؛ ويعرفون به الوحي؛ فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتاباً وليس وحياً، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول. فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون:
{وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير}!
ويلمس قلوبهم بتذكيرهم بمصارع الذين كذبوا من قبل. وهم لم يؤتوا معشار ما أوتي أولئك الغابرون. من علم، ومن مال، ومن قوة، ومن تعمير.. فلما كذبوا الرسل أخذهم النكير. أي الهجوم المدوي المنكر الشديد:
{وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي. فكيف كان نكير؟}..
ولقد كان النكير عليهم مدمراً مهلكاً. وكانت قريش تعرف مصارع بعضهم في الجزيرة. فهذا التذكير يكفي. وهذا السؤال التهكمي {فكيف كان نكير؟} سؤال موح يلمس المخاطبين. وهم يعرفون كيف كان ذلك النكير!
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق، ومعرفة الافتراء من الصدق، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل:
{قل: إنما أعظكم بواحدة.. أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة. إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}..
إنها دعوة إلى القيام لله. بعيداً عن الهوى. بعيداً عن المصلحة. بعيداً عن ملابسات الأرض. بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله. بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة. والمؤثرات الشائعة في الجماعة.
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة؛ ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها.
دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة.
وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة. منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات. وعلى مراقبة الله وتقواه.
وهي واحدة.. إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق. القيام لله.
لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.
{أن تقوموا لله. مثنى وفرادى}.. مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء.. وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق.
{ثم تتفكروا. ما بصاحبكم من جنة}.. فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة. وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده. إن هو إلا القول المحكم القوي المبين.
{إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}..
لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة. لينقذ من يستمع. كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق. وهو تصوير فوق أنه صادق بارع موح مثير..
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر، حدثني عبدالله بن بريرة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فنادى ثلاث مرات: «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم. فبعثوا رجلاً يتراءى لهم، فبينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه. أيها الناس أتيتم. أيها الناس أتيتم. أيها الناس أتيتم».
وروي بهذا الإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة جميعاً. إن كادت لتسبقني».
ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي. يتبعه الإيقاع الثاني:
{قل: ما سألتكم من أجر فهو لكم. إن أجري إلا على الله. وهو على كل شيء شهيد}..
دعاهم في المرة الأولى إلى التفكر الهادئ البريء.. ما بصاحبكم من جنة.. ويدعوهم هنا أن يفكروا ويسألوا أنفسهم عما يدعوه إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد. ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية:
{قل: ما سألتكم من أجر فهو لكم}!
خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكم. وفيه توجيه. وفيه تنبيه.
{إن أجري إلا على الله}..
هو الذي كلفني. وهو الذي يأجرني. وأجره هو الذي أتطلع إليه. ومن يتطلع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هين عنده هزيل زهيد لا يستحق التفكير.
{وهو على كل شيء شهيد}..
يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء. وهو عليّ شهيد. فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول.
ويشتد الإيقاع الثالث وتقصر خطاه:
{قل: إن ربي يقذف بالحق علاّم الغيوب}.
وهذا الذي جئتكم به هو الحق. الحق القوي الذي يقذف به الله. فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟ إنه تعبير مصور مجسم متحرك. وكأنما الحق قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق.. يقذف بها الله {علاّم الغيوب} فهو يقذف بها عن علم، ويوجهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سد يعوق. فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور!
ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته:
{قل: جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد}..
جاء هذا الحق في صورة من صوره، في الرسالة، وفي قرآنها، وفي منهجها المستقيم. قل: جاء الحق. أعلن هذا الإعلان. وقرر هذا الحدث. واصدع بهذا النبأ. جاء الحق. جاء بقوته. جاء بدفعته. جاء باستعلائه وسيطرته {وما يبدئ الباطل وما يعيد}.. فقد انتهى أمره. وما عادت له حياة، وما عاد له مجال، وقد تقرر مصيره وعرف أنه إلى زوال.
إنه الإيقاع المزلزل، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال.
وإنه لكذلك. فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح. ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم. ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق. إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ. وهذه موقوتة ثم تزول. أما الحق فواضح بين صريح.
والإيقاع الأخير:
{قل: إن ضللت فإنما أضل على نفسي. وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي. إنه سميع قريب}..
فلا عليكم إذن إن ضللت. فإنما أضل على نفسي. وإن كنت مهتدياً فإن الله هو الذي هداني بوحيه، لا املك لنفسي منه شيئاً إلا بإذنه. وأنا تحت مشيئته أسير فضله.
{إنه سميع قريب}..
وهكذا كانوا يجدون الله. هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم. كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية. كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم. وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة؛ وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة. وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه. ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم. في كنفه. في جواره. في عطفه. في رعايته. ويجدون هذا كله في نفوسهم حياً، واقعاً، بسيطاً، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.
{إنه سميع قريب}..
وأخيراً يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف:
{ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب. وقالوا: آمنا به}.

1 | 2